Mar 8, 2011

صهيونية" إسلامية؟"


حسنٌ.  والآن بعد أن نجحت في جذب انتباهك، فلأبيّن إذن ما المقصود من العنوان أعلاه.


التعريف الصهيوني (أو اليهودي-المسيحي، أو الغربي) للصهيونية: حركة سياسية تهدف إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، أرض أسلافهم التي وعدهم الله بها حسب كتابهم المقدس التوراة.

التعريف الموضوعي (أو المجرّد، أو الأوسع) للصهيونية: حركة سياسية عسكرية ذات مرجع ديني تهدف إلى إنشاء دولة على منطقة جغرافية محددة أو مفتوحة لتجمع أتباع ديانة ما بشكل حصري، بغضّ النظر عن مواطنهم الأصلية الموزّعة حول العالم، وعن المواطنين الأصليين من أتباع ديانات أخرى في تلك المنطقة الجغرافية المحددة أو المفتوحة، واستعمال كل الوسائل الضرورية للوصول إلى هذه الغاية.  وهنا قد يتّضح التشابه بين الصهيونية والاستعمار، بل ونراه يُمارس يوميّاً بصورته الخامّة في بناء وتوسيع المستوطنات اليهودية في الضفّة الغربيّة.  وقد تبدو الصهيونية كتطوير أو ابتكار في صناعة الاستعمار، حيث يأتي المستعمِرون من معتنقي ديانة واحدة وليس من المُنتمين إلى قومية ما انطلاقاً من دولة (عادةً ما تكون أوروبية) قائمة بالفعل على الأرض، وبالتالي يشكّل المستعمِرون مجموعة متعددة الجنسيّات والثقافات عابرة للمحيطات والقارّات، من الصين والهند وكندا وإثيوبيا وبولندا وروسيا وفرنسا وألمانيا والأرجنتين ومصر والمغرب واليمن وإيران والعراق وكازخستان وأوزبكستان وجنوب إفريقيا وأستراليا وبريطانيا وأميركا وغيرهم.

وقد يتضح هنا أيضاً التقارب الروحي بين الصهيونية والتجربة الأميركية، وهما يلتقيان أصلاً في الخلفية الاستعمارية للإمبراطورية البريطانية وفي تجاهلهم جميعاً (المستعمِر الإمبريالي والمستعمِر المنشقّ عنه) لحقوق المواطنين الأصليين وانتقاص إنسانيتهم.  ونظرية "الاستثنائية الأميركية" ("American exceptionalism") السائدة في الأوساط السياسية الأميركية تأخذ عمقاً إيديولوجياً عَقَدياً أكثر حدّة في الأدبيّات المسيحيّة المحافِظة، التي تستوحي القصة التوراتية لبني إسرائيل في وصفها التاريخي لأولى هجرات "الحجاج" التطهّريين (Puritan Pilgrims) الانغليز الذين أسّسوا مستعمرة "بلايموث Plymouth" في عام 1620 م ، إحدى أوائل المستعمرات في الأرض الموعودة الجديدة (التي أصبحت فيما بعد الولايات المتحدة الأميركية) ليمارسوا ديانتهم فيها بحُريّة ونقاء بعيداً عن أجواء الفساد والاضطهاد في أوروبا، وليستَولوا على الأرض وينهلوا من حليبها وعسلها ويقهروا الأمم التي كانت تقطنها بالإخضاع إن تيسّر أو بالإفناء إن تعذّر.  ولعلّ أشهر خطبة سياسية-موعظة دينية في التاريخ الأميركي كانت تلك التي ألقاها جون وِنثرُب (John Winthrop)، أحد قادة المستعمِرين التطهّريين، في عام 1630 م من على سطح سفينة آربلا الناقلة للمستوطنين إلى إنغلترا الجديدة ("New England") في العالم الجديد، والذي أصبح فيما بعد حاكماً لمستعمرة خليج ماساتشوستس.  تلك الخطبة-الموعظة اشتهرت بعبارة "مدينة على تلّة  a city upon a hill  "، المقتبَسة من إحدى مواعظ المسيح، والتي بقيت حية في الوجدان السياسي الأميركي إلى اليوم، كما تمّ اقتباسها في خطب مشهورة أخرى لكلٍ من الرمز الديمقراطي الرئيس جون كيندي (ابن ماساتشوستس) والرمز الجمهوري الرئيس رونالد ريغن (الذي أضاف كلمة "مُشرقة" لتُصبح العبارة "مدينة مشرقة على تلّة shining city on a hill")، وقال فيها وِنثرُب (ترجمتي الشخصية):
 "لأننا علينا أن نعتبر أننا سنكون كمدينة على تلة. عيون البشرية  مسلطة علينا. بحيث أننا إذا تعاملنا بزيف مع إلهنا في هذا العمل الذي أخذناه على عاتقنا، وجعلناه يسحب عونه الحاضر منا، فإنا سنصبح قصة وعبرة للعالم. سيتفوّه الأعداء بالسوء على طرق الله.. سنُخزي وجوه الكثير من عباد الله الجديرين، وسنجعل صلواتهم تتحول إلى لعنات علينا  إلى أن نُستنفد من الأرض الطيبة التي نتجه إليها. وإنّ في إقفال هذا الحديث بموعظة موسى، ذاك العبد المخلص لله، في خطبة وداعه الأخيرة لإسرائيل: ‘أيها الأحبة، يوجد الآن أمامنا الحياة والموت، الحق والباطل’، أننا مأمورون اليوم بأن نحب الرب إلهنا، ويحب بعضنا البعض، وأن نسير على طريقه ونحافظ على وصاياه وقضائه وشرائعه، وبنود ميثاقنا معه، حتى نحيا ونتكاثر، وحتى يبارك لنا الرب إلهنا في الأرض التي نقصدها لنستحوذ عليها."

فإذن أولئك "الحجاج"، أو الغزاة المستعمِرون بدافعٍ عَقَدي وشرعيّة دينية بتعبير أصحّ، كانوا روّاد الاستعمار الأوروبي البروتستنتي لأميركا الشمالية الذين استلهموا سفر الخروج في التوراة واعتبروا أنفسهم إسرائيليين جدد يفتحون كنعان جديدة (لاحظ تشابه رؤية "مدينة على تلة" مع مصطلحات "جبل صهيون" و"جبل المعبد" و"مدينة داود" والتي ترمز لمدينة القدس أو لكافة "الأرض الموعودة" في الأدبيات الصهيونية)، وإن لم يكن ممكناً أو مرغوباً تطبيق الحصريّة الدينيّة على التجربة الأميركية بشكل رسمي عند إعلان الاستقلال وتأسيس الدولة في 1776 م.

فهل يطمح المسلمون إلى التحوّل إلى قوة استعمارية عظمى؟  هل يحلمون بمستقبل إمبريالي ويتحرّقون شوقاً إلى أمجاد الإمبراطورية؟  هل يريد المسلمون أن يصبحوا "صهاينة"؟  أو حتى أن يتشبّهوا بالصهيونية؟  بمعنى أن يقيموا دولة تجمع كل المسلمين من جميع أنحاء الأرض على منطقة جغرافية محددة أو مفتوحة دون مبالاة بحقوق مواطنيها الأصليين من غيرهم وبإنسانيّتهم وثقافاتهم المختلفة، وأن يستعملوا كل الوسائل الضرورية للوصول إلى هذه الغاية؟
هل يعتبر المسلمون أنفسهم شعب الله المختار الجديد؟  هل الجهاد يعني أن الله استحلّ  لهم الأرض بما عليها من رقاب وأعراض وأموال تخصّ الشعوب الأخرى؟

كما يجدر باليهود، الذين عانوا من العنصريّة والاضطهاد وسلب ممتلكاتهم وإلغاء إنسانيّتهم، أن يكونوا أول المقاومين للظلم والعدوان على أي جماعة دينيّة أو عرقيّة أخرى، فضلاً عن أن يمارسوه أنفسهم، كذلك يجدر بالمسلمين، الذين عانوا من العنصريّة والاضطهاد والاستعمار الأوروبي والصهيوني وضياع حضارتهم وسلب ثرواتهم وهدر كرامتهم والتضييق عليهم في دينهم، أن يعترفوا بحقوق غير المسلمين في الحياة والأمن والكرامة والاستقلال والحرّيّة الدينيّة وتقرير المصير.  لا يَصدُق كفاح المظلوم في سبيل حقوقه ولا يكتمل بالقوّة الأخلاقيّة والحجّة المنطقيّة التي تنصره في النهاية إن لم يُسلّم المظلوم للآخرين بذات الحقوق.

إذن فالوسيلة الفعّالة لمناهضة الصهيونيّة يجب أن تشمل مكافحة المبدأ الذي تستند عليه، أي الفكرة الاستعمارية ذات المرجع الديني الحصري والإقصائي بالنسبة للأغيار (الأمم من غير اليهود أو "الجنتايل Gentile" في حالة الصهيونية اليهودية، أو "الكفّار" في نظر المسلمين ذوي النزعة الاستعمارية)، أيّاً كانت الديانة التي تُنسب إليها الشرعيّة المزعومة لذلك المبدأ العنصري.  بل ويُفترض أن مجرّد كشف عنصريّة هذه الشرعيّة وتعريتها كافياً لسقوطها لأنها لا تقوم إلا بالقوّة الصِرفة، أي قوّة البارود والنقود أو المِدفع والمدفوع، فتبقى حتماً شرعيّة عدائية فاسدة تحابي أتباع ديانة ما على حساب غيرهم، الذين لا يؤمنون أصلاً بتلك الشرعية وأساسها اللاهوتي، وتُميّز بين البشر على أساس عقائدهم، وبالتالي لا يمكن قبولها فلسفياً أو علمياً أو قانونياً في عالم يولد فيه جميع أعضاء الأسرة البشرية أحراراً ومتساويين في الكرامة والحقوق.  فعالم كهذا، عندما يتحقق، سيخلو حتماً من أي استلهام لما يُفترض أن أمر به إلهٌ ما "أبناءه" و"أحبّاءه":

"10 وإذا اَقتَرَبتُم مِنْ مدينةٍ لِتُحارِبوها فاَعْرُضوا علَيها السِّلْمَ أوَّلاً، 11 فإذا اَستَسلَمَت وفتَحَت لكُم أبوابَها، فجميعُ سُكَّانِها يكونونَ لكُم تَحتَ الجزيةِ ويخدِمونكُم. 12 وإنْ لم تُسالِمْكُم، بل حارَبَتكُم فحاصَرتُموها 13 فأسلَمَها الرّبُّ إلهُكُم إلى أيديكُم، فاَضْرِبوا كُلَ ذكَرٍ فيها بِحَدِّ السَّيفِ. 14 وأمَّا النِّساءُ والأطفالُ والبَهائِمُ وجميعُ ما في المدينةِ مِنْ غَنيمةٍ، فاَغْنَموها لأنْفُسِكُم وتمَتَّعوا بِغَنيمةِ أعدائِكُمُ التي أعطاكُمُ الرّبُّ إلهُكُم. 15 هكذا تفعَلونَ بجميعِ المُدُنِ البعيدةِ مِنكُم جدُا، التي لا تخصُّ هؤلاءِ الأُمَمَ هُنا. 16 وأمَّا مُدُنُ هؤلاءِ الأُمَمِ التي يُعطيها لكُمُ الرّبُّ إلهُكُم مُلْكًا، فلا تُبقوا أحدًا مِنها حيُا 17 بل تُحَلِّلونَ إبادَتَهُم، وهُمُ الحِثِّيّونَ والأموريُّونَ والكنعانِيُّونَ والفِرِّزيُّونَ والحوِّيُّونَ واليَبوسيُّونَ، كما أمركُمُ الرّبُّ إلهُكُم 18 لِئلاَ يُعَلِّموكُم أنْ تفعَلوا الرَّجاساتِ التي يفعَلونَها في عِبادَةِ آلِهَتِهم فتَخطَأوا إلى الرّبِّ إلهِكُم."؟
سفر التثنية، إصحاح 20

No comments:

Post a Comment