Mar 30, 2011

النظرة المُتَرَوِّية في صرخة الثورة المُدَوِّية


الحمدلله الذي خلق البشر أحرارا، وتوعّد الظلم والظالمين مِرارا، وأخرج الحيّ من قلوب كانت أحجارا، وأيّدها بروح منه ففاضت أنهاراً وبحارا، وانبثق عدله على ملكوته أنوارا، لا إله إلا هو له الملك وحده لا شريك له بيده كل شيء علماً وأسرارا.

والصلاة والسلام على محمد إمام الانعتاق، الذي حطّم الأصنام ووسّع الآفاق، عبدُ الله ورسوله الذي تنزّه عن الإطراء والنفاق، وثار على الجَوْر والإملاق، فهوت إليه الأفئدة واشرأبّت الأعناق، ثم رحل بلا مُلك أو وِرث وهو لربّه مشتاق، فنفذت رسالته واستقرّت رحمةً وجذوةً في الأعماق.

أما بعد، فقد قمنا بتدوين هذه العجالة لإمام شهداء الثورة العربية، محمد بوعزيزي، صاحب تونس الحرّة، دفين سيدي بوزيد التي كانت على الطغيان مُرّة، الجالس على عرش قلوب أمّته البَرّة، والذي ترفرف روحه من فوق كفاحهم في كل كرّةٍ وفرّة.

فاعلم، رحمك الله، أنك بفدائك نفسك ضد الضَيْم والإذلال قد صنعت ما عجزت عن تخيّله الأحلام، وأنك بهول مأساتك كنت مخلّص هذه الأمّة من الآلام، وأن شعلة جسدك كانت وميض فجر انشقّ عنه ليل طويل حالك الظلام، وشمساً جديدة للحرية سطعت على سائر الأنام، وإذا بالحياة تدبّ في رميم العظام، وإذا بقومك الغارقين في غياهب الانهزام، يدكّون الأرض دكّاً مزلزلين أباطرة الأوهام، ويُزمجرون بصوت واحد مجلجِل: الشعب.. يريد.. إسقاط النظام.  فائذن لي، غفر الله لك، بأن أتأمّل في ما وراء الصرخة، التي استلهمَت بؤسَك، من إلهام.

   الشَّعْبُ..
ورد في "لسان العرب" أن الشّعْب هو الجَمعُ، والتَّفْريقُ، والإِصلاحُ، والإِفْسادُ. وفي حديث ابن عمر: "وشَعْبٌ صَغِـيرٌ من شَعْبٍ كبيرٍ" أَي صَلاحٌ قلِـيلٌ من فَسادٍ كَثِـيرٍ.  فهي إذن من عجائب كلام العرب، وقيل من الأضداد، فيُقال "التَـأَمَ شَعْبُهم" إِذا اجتمعوا بعد التفَرُّقِ؛ و"تَفَرَّقَ شَعْبُهم" إِذا تَفَرَّقُوا بعد الاجتماعِ.  وفي حديث عائشة في وصفها أَباها: "يَرْأَبُ شَعْبَها" أَي يَجْمَعُ مُتَفَرِّقَ أَمْرِ الأُمّةِ وكلِمَتَها.  فإذن الشعب قوم تشعّبوا (افترقوا) في الأصل عن غيرهم من بني آدم فانشعبوا (التأموا) في جماعة واحدة يجمعها الموطن والقربى والتاريخ والثقافة، ثم تشعّبوا (تفرّقوا) إلى قبائل أو عوائل وإلى معتقدات وأطياف وطبقات ورؤى مختلفة أفراداً ومجموعات، ثم شعّبَهم (ضمّهم) مقصد أكبر ألا وهو الخير المشترَك في أمنهم وسِلمهم ورِزقهم وحرثهم ونسلهم وتمدّنهم وتحضّرهم وعمار بلادهم وازدهارها بما فيه صالحهم وذرّيّاتهم.
   يُرِيد..
وفي "لسان العرب" أيضاً نجد أن الرَّوْد مصدر فعل الرائد، وهو الذي يُرْسَل في التماس النُّجْعَة وطلب الكلإِ.  وأَصل الرائد الذي يتقدّم القوم يُبْصِر لهم الكلأَ ومساقط الغيث، وفي حديث وفد عبد القيس: "إِنَّا قوم رادَةٌ"؛ وهو جمع رائد كحاكة وحائك، أَي نرود الخير والدين لأَهلنا.  كما يقال: رادَ يَرودُ إِذا جاء وذهب ولم يطمئن، ورجل بات رائدَ الوِسادِ إِذا لم يطمئن عليه لِهَمٍّ أَقلَقَه.  وأراد الشيءَ أي شاءَه، فالإرادة هي القصد والمشيئة، وقيل في قوله تعالى: "وجدا فيها جداراً يُريد أَن ينقضَّ فأَقامه" أن الإرادة إِنما تكون من الحيوان (أي الكائن الحيّ)، والجدارُ لا يريد إرادة حقيقية لأَنَّ تَهَيُّؤه للسقوط قد ظهر كما تظهر أَفعال المريدين.  وعليه فإن الإرادة هي فعل الحياة وما يميّزها عن غيرها من أنواع الوجود، والمُراد هو المطلب أو الغاية التي يسعى المُريد حثيثاً إليها ولا يستقرّ إلا ببلوغها، أي المقصد الأكبر الجامع إن كان المريد شعباً.
   إسقاط..
في "العباب الزاخر"، نجد أن الأصل في السقوط نزوْلُ الشيءِ من أعلى إلى أسفل ووقوعهُ على الأرضْ، ويقال: سقطَ الولدُ من بطنِ أمه، ولا يقال وقعَ، ويقال: هذا الفعلُ مسقطةُ للإنسان من أعين الناس.  ولا يقال: أسقط (بالألفِ) على ما لم يُسمّ فاعله، فيقال: أسقطت الناقةُ وغيرها إِذا أَلقت ولدها.  والسَّقْطةُ في "لسان العرب" الوَقْعةُ الشديدةُ، وفي التنزيل العزيز: "ولَمّا سُقِط في أَيديهم"؛قيل أي ضرَبوا بأَكُفِّهم على أَكفهم من النَّدَم، فيقال للرجل النادم على ما فعل الحسِرِ على ما فرَط منه: قد سُقط في يده وأُسقط.  وأسقطت المرأَةُ ولدها إِسْقاطاً، وهي مُسْقِطٌ، أي أَلقَتْه لغير تَمام.  إذن فالمراد من الإرادة المذكورة هو إلقاء شيء كان في العُلى إلى الأرض، أو لفظ جسم ميت أو يوشك أن يموت، ثم دفنه أو تركه حتى يتحلل مع الزمن، على أن يكون الفاعل في فعل الإسقاط هو الشعب.

   النظام..
في "لسان العرب"، النَّظْمُ هو التأْليفُ، نَظَمَه يَنْظِمُه نَظْماً ونِظاماً ونَظَّمه فانْتَظَم وتَنَظَّم.  ونظَمْتُ اللؤْلؤَ أي جمعته في السِّلْك، والتنظيمُ مثله، ومنه نَظَمْتُ الشِّعر ونَظَّمْته، ونَظَمَ الأَمرَ على المثَل.  وكلُّ شيء قَرَنْتَه بآخر أو ضَمَمْتَ بعضَه إلى بعض، فقد نَظَمَتْه.  والنِّظام ما نَظَمْتَ فيه الشيء من خيط وغيره، وكلُّ شعبةٍ منه وأَصْلٍ نِظام.  ونِظامُ كل أَمر: مِلاكُه، والجمع أَنْظِمة وأَناظيمُ ونُظُمٌ.  وقيل النَّظْمُ نَظمُك الخرزَ بعضَه إلى بعض في نِظامٍ واحد، كذلك هو في كل شيء حتى يقال: ليس لأمره نِظامٌ أي لا تستقيم طريقتُه.  وفي حديث أَشراط الساعة: "وآيات تَتابعُ كنِظامٍ بالٍ قُطِعَ سِلْكُه"؛ فالنِّظام العِقْدُ من الجوهر والخرز ونحوهما، وسِلْكُه خَيْطُه.  وهكذا نرى أن الشيء الذي يريد الشعب إسقاطه هو الأساس الذي يجمع كافّة الأجزاء مع بعضها البعض ويُبقي عليها في مكانها لتكوّن الكلّ الفاسد، وهو كما انتهت إليه قناعتهم أساس مهترئ لا يصلح إلا لاستمرار الفساد، ولا يزول الفساد إلا بالتخلّص منه واستبداله بنظام جديد من شأنه أن يمنع كلّ ما دفعك على إحراق نفسك قرباناً للعدالة والكرامة الإنسانيّة وشعلة للحرّيّة العربيّة.

رحمك الله يا شهيد الزمان، ورحم قومك من بعدك.

No comments:

Post a Comment