Aug 11, 2011

آل إبراهيم

“وقال الرب لأبرام: ارحل من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أُرِيك، فأجعلك أُمَّةً عظيمة وأُبارِكَكَ وأُعظِّم اسمَك وتكون بركة، وأُبارِكُ مُبَارِكيكَ وألعَنُ لاعنيك، ويتبارك بك جميع عشائر الأرض. “
(تكوين 12: 3-1)

قد تكون المحاولة الفلسطينية لاستحقاق اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطين المستقلة آخر فرصة لدى الإسرائيليين للحفاظ على ما اصطلح على تسميته بـ”حل الدولتين”.  بالرغم من ذلك، يبدو أنهم عازمون على استلال كل ما في جعبتهم من سلاح، بما في ذلك الڤيتو الأميركي البتّار، لإفشال هذه المحاولة.  حسنٌ إذن، فليفعلوا.. طالما أنهم يعون ما سوف يعني ذلك لمستقبلهم: 1. إما نظام أپارتايد سيزول عاجلاً أم آجلاً، وذلك بعوامل طبيعية دموغرافية وجيوسياسة وحقوقية واقتصادية، كما حصل لنظام جنوب إفريقيا العنصري، وخاصة بعد تحوّل البحر العربي حولهم ومن بين أيديهم إلى محيط هائج تعصف به رياح دمقراطية عاتية يكاد مدّه الثوري أن يفيض عليهم؛ 2. أو حلّ الدولة الدمقراطية الواحدة اللا دينية سواءً كانت ثنائية القومية أو معدومة القومية، لمعضلة فلسطين/إسرائيل - وبالمناسبة، “دولة دمقراطية يهودية”، مهما أبدعت السفسطائية الصهيونية، ليست إلا تناقض لفظي وفلسفي (oxymoron).

يعني باختصار: لو أفشل الإسرائيليون “حلّ الدولتين" (two-state solution)، فإن أرادوا تجنّب “حلّ الدولة اليهودية” (و”حلّ” هنا بمعنى تصفيتها (Jewish-state dissolution)، لن يكون أمامهم إلا قبول “حلّ الدولة الواحدة" (one-state solution).

فكرة الدولة الواحدة الدمقراطية اللبرالية الملتزمة بحقوق الإنسان ليست جديدة: منظمة التحرير نفسها كانت في الأصل تهدف إلى إقامة دولة علمانية فلسطينية تضمن الحقوق المتساوية لجميع مواطنيها اليهود والمسيحيين والمسلمين على كامل تراب فلسطين.  حتى القذافي كان قد اقترح، فيما اقترح، فكرة الدولة الواحدة الحتميّة التي تجمع العرب واليهود، وابتكر، فيما ابتكر، مسمّى “إسراطين”  لهذه الدولة.  ولكن ربما أستطيع أن أطرحها برؤية إبداعية جديدة، أو باستراتيجية أكثر إنسانية، وبِحسٍّ تسوده قيمة حقن دماء البشر ويوغل في مفهوم السلام الذي لا يساوم، وإن بدت أكثر طوباوية في البداية.

لا بدّ من أن يوجد نفر غير قليل من الطرفين لديهم هذا الحسّ، أرواح إنسانية تلتقي في منبعها ومصبّها قبل أن يكونوا أبناء قبيلة أو أتباع ديانة.  هؤلاء الأرواح لا بدّ أنهم يرون في هذه الدولة الواحدة الدمقراطية اللبرالية الملتزمة بحقوق الإنسان الحل الوحيد الذي تلتقي وتتّزن عنده العدالة والواقعية، النقطة التي يتّفق فيها ما يجب وما يمكن أن يصبح حقيقة، فقط إن توفّرت الإرادة الإنسانية.  وإن توفّرت، فالنتيجة قد تتعدى مجرد الحل لتصبح إنجازاً حضارياً غير مسبوق في تاريخ الإنسانية.

الفرصة أضخم بكثير من حل قضية الشرق الأوسط: الإسرائيليون والفلسطينيون المعاصرون بإمكانهم أن يصنعوا المثال الذي يقود البشرية إلى مستقبل أقلّ قتامة، أن يُنيروا الطريق في رحلة الإنسان نحو الارتقاء إلى حقبة ما بعد الدولة الدينية والدولة القومية، إلى عالم أكثر سلماً وعدلاً وأكثر وحدة ضد كل ما يهدد الجنس البشري، وعلى رأسها الحروب.

وهنا أخاطب كل من انتسب إلى إبراهيم، وراثياً أو روحياً: هل يرضيكم أن يتقلص تراث جدّكم إبراهيم في منظور العالم إلى ظاهرة اقتتال الإخوة (fratricide)؟  الصراع العائلي على إرث أو أملاك؟  التناحر القِبلي على أرض تتصحّر وتتضاءل مواردها باستمرار؟  هل تصبح قصّة قابيل وهابيل هي سُنّتكم للبشرية التي التزمتم بإحيائها عبر التاريخ لتكونوا القدوة الأمثل والرمز الكلاسيكي لحروب الأسرة الإنسانية، ولتحملوا شعلة الأحقاد التي لا تنطفي لآلاف السنين؟  هل الحرب مأثرتكم وخلاصة إسهامكم في الحضارة الإنسانية؟
هل تعتقدون أن هذا كان ليرضيه هو؟  هل تظنون أن إبراهيم فخور بذريته؟  هل كان ليقنع بأن تُوحِّد ملّة إبراهيم نصف أهل الأرض (حوالي 3.8 مليار نسمة)— وإن اختلفت تأويلاتهم، بينما يمزّق الشقاق والنزاع سلالته؟  هل كان ليرضى بأن يسفك دمُه دمَه؟

هل من وفاءٍ أجمل لذكرى أبيكم إبراهيم، وتطبيقٍ أبلغ لمبدئه التوحيدي الذي قدتم به البشرية، من اتحاد ذريته على أرضه؟

إبراهيم بلا شك أهمّ كشخصية تاريخية من يعقوب، فهو جدّه الذي أسّس التقليد الديني القائل بوحدة الإله وزعيم الثورة التوحيدية التي اندلعت في وجه عالم يؤمن بتعدد الآلهة.  فلا مبرّر إذن للتمسّك بمسمّى “إسرائيل”، لقب يعقوب، بدلاً من اسم جدّه الأبرز.  فهل يعترض اليهود على تسميتهم بالإبراهيميين، تيمناً بمن يعتبروه هم أنفسهم، والمسيحيون كذلك، الأبَ أو الپطريرك المؤسس الذي اختاره الله ليكون أول من يعقد معه عهده الأبدي بعد الطوفان؟

أما عن مسمّى “فلسطين”، فأصله غير إبراهيمي ولا حتى ساميّ، بل يعود إلى قوم من غزاة البحر (أو “شعوب البحر” كما كان يُطلق عليهم) هاجروا من جزيرة كريت واشتبكوا مع الإسرائيليين الذين كانوا يسعون إلى احتلال أرض كنعان آنذاك (حوالي 1190 إلى 1150 قبل الميلاد)، وكذلك مع جيوش الفراعنة الذين كانوا يشكّلون القوة العظمى آنذاك ويعملون على تأمين حدود إمبراطوريتهم وتوسيع رقعتها.  ولسبب ما (غالباً سياسة الروم الذين سيطروا على المنطقة بعد كل هؤلاء) طغى اسمهم (Philistines)  تاريخياً على الاسم الأصلي لتلك الأرض التي كان يقطنها الكنعانيون قبل أن يغزوها المصريون ثم الإسرائيليون الفارّون من المصريين.  أي أن جميع الأطراف المعنيّة كانت تتصارع كرّاً وفرّاً للسيطرة على أرض كنعان، فلا يوجد ارتباط عاطفي لدى أيٍّ منهم بمسمّى أولئك الغزاة الإغريق. أما “إبراهيم” بالنسبة للمسلمين، فهو خليل الله وأبو الأنبياء وجدّ العرب العدنانيين قوم رسولهم الأكرم.

طبعاً القضية ليست في الأسماء،  ولكن الاسم يعبّر عن الكثير من المعاني.  المهم أن توجد الإرادة لدى عددٍ كافٍ من الفلسطينيين والإسرائيليين المعاصرين لتحقيق معانٍ أسمى.  لا أملك إلا أن أتساءل إن كانت الحركة الاحتجاجية الإسرائيلية المتأثرة بثورات العرب والتي يرمز لها بـ#J14 على تْوِتِر، ويفترض أنها تحتوي على عناصر فلسطينية، أتساءل إن كانت جنيناً محتملاً لتلك الإرادة الإنسانية.  وإن وُجدت الإرادة، فطبعاً سوف يتطلب الأمر جهداً هائلاً وميزانية ضخمة ولكنه استثمار عائده أكبر منه.  وبإمكاني أن أقترح بعض الأفكار عن كيفية الشروع في هذا المشروع، ولكن سأكتفي باقتراح الخطوة الأولى البديهية، أو التذكير بها: أعطوا كل فلسطيني وكل فلسطينية وكل إسرائيلي وكل إسرائيلية صوتاً، ودعوهم يختاروا من سيؤسس لهم جمهوريتهم الجديدة: جمهورية إبراهيم.


“أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا”
﴿النساء: 54﴾


No comments:

Post a Comment